الخميس، 11 أكتوبر 2012

هلوسات في مقام العشق

هلوسات في مقام العشق
يحي الحسن الطاهر

رواية الزوجة:
كنت جالسة – كعادتي في مثل هذا الوقت من كل صباح – بالمطبخ أعد طعام الغداء، فقد أخبرني زوجي بقدوم ضيوف لمشاركته معنا:
أريدك أن تبرهني يا عزيزتي للجميع كيف يكون الطبخ فنا راقيا، ثم..ناثرا من  حقائب ضحكته وهو يغادر  كل  صنوف الإغراءات المضمرة :  أعدي لهم " الضربة القاضية".
فهمت ما يعني " فالضربة القاضية " هي ذلك الطبق المكون من البطاطا وكرات اللحم مع بعض الخضار والتوابل الحريفة ، الذي كثيرا ما يطلبه وبخاصة حينما يدعو أصدقائه للطعام ،أما أنا فحين أقولها وأنا أطلب منه شيئا..فغالبا ما أعني أشياء أخرى ...تفهمها النساء منكن بالطبع بسهولة شديدة ...أما الرجال فلا يفهمها منهم إلا من ألقى السمع وهو شهيد !!..كنت حينها أستمع للمذياع..( وفي تطور آخر ..أفاد الجيش السوداني بأنه ) يا لله! سئمت كل هذه الأخبار التي تشهد لملك الموت بالاقتدار والكفاءة ، أجهزة الإعلام تملا فضاءنا بجثث موتى ..من كل الأصناف: موتى حروب..فيضانات..زلازل وكوارث أخرى.. تجعلك تحار حقا من كل هذه القبور الأثيرية التي تضاهي قبور الأرض عددا ...وتعجب كيف تقتبر الأثير ...تتخذ من أصوات الإذاعات والتلفاز أكفانا ...فكرت مرة في أن أنشئ إذاعة للأخبار السعيدة فقط .. أدرت المؤشر إلى محطة أخرى ..وأخرى ...حتى سمعت صوتها السماوي أخيرا، سيرينية فارة منذ الآف السنين من قريتها البعيدة في بلاد الإغريق ..  بدا لي حينها إن آلافا من العصافير الضوئية الرقيقة قد أعارتها حناجرها الفضية ، ونسيت في غمرة استمتاعها بهذا الصوت البهيج أن تسترجعها ، وما هذا  الشجو  العذب والحنين الرقيق في أصواتها إلا نواحا وحسرة على غياب تلك الحناجر ، كانت تغني تلك الأغنية التي يقال إن صغار الملائكة تغنيها بصورة مضحكة إذ تحاول تقليدها فتتعثر في تعاريج آهاتها تركض بعيدا في متاهات صمتها حين تصدح الموسيقا منفردة ، ثم  تغوص عميقا في هذه الينابيع الباطنية الصغيرة التي تتقاطر منها مياه صوتها النميرة وهي تغسل ما يعلق بنغمات البيانو  من سهو يلم به حين يتراقص طربا وتستخف به النشوة  من هذه العذوبة المنثالة سحرا يسكر الألباب..
بدأت بتقشير البطاطا وتقطيعها شرائح صغيرة ..حين سمعت فجأة باب الثلاجة يفتح ويقفل ..لم يكن هناك أحدا غيري بالمطبخ ..فالأولاد بالمدارس ونحن في يوم الأحد الذي تذهب فيه " تريزا " إلى عطلتها الأسبوعية..ماهذا ..صرت أحدق في الثلاجة بذهول ...كانت مغلقة بإحكام كما تركتها ...لكني أقسم بأني سمعتها قبل قليل تنفتح وتغلق..حتى إن تيارا من الهواء البارد لسعني في جسدي المتعرق..قمت من مقعدي ..فتحتها ولدهشتي الشديدة لم أجد  قطع الشيكولا التي خبأتها هناك من زوجي في مكانها ( هل قلت لكم انه  يحبها لأنها تذكره بمذاقي ...كما يغازلني دوما؟) ولأنني أعرف ألاعيبه جيدا فقد تأكدت من إنها موجودة في مكانها بعد خروجه بقليل..  نعم ..كانت هناك تنتظر لهفتي لالتهامها .. وأنا في جب حيرتي ذاك ..شعرت بذراعين يطوقاني من الخلف في عناق عذب ..لم أحس به إلا معه ( وخاصة حين نحتفل بعيد زواجنا ) تذكرت: انه اليوم ..نعم عيد زواجنا هو اليوم ...آه..ربما إذن هذه مجرد هلوسة، ربما أتخيل كل ذلك لأني أرغب في عناقه ..ربما...ولكن أنفاسه تلهب  يدفئها كل جسدي ..حين التفت...لم يكن هناك ..صرت أتحسس عنقي ...شممت فإذا بعطره يفوح من يدي..صرخت: أين أنت..لم يجبني..ماذا حل بي ..أجيبوني بربكم .. 
لا ..أنت لا تهلوسين يا عزيزتي..سمعت صوته صادرا من مكان ما في أعماقي..ثم رأيته يدلف إلى المطبخ طيفا ...غماما..يدخن سيجارته المعتادة ..التي ما يزال عبق دخانها في كل أنحاء المطبخ..ألا تشمونه ؟ ( كان المطبخ- كما لاحظنا جميعا- يعبق بالفعل برائحة سجائر كثيفة جدا..وحلقات الدخان ما تزال تتراقص دوائرا في كل أنحائه....)  ..  أقسم لكم إني رأيته هكذا: كان يتسكع في المطبخ  بقامته المديدة، يفتح الأواني وهو يتشمم بإعجاب واضح نكهات الأطعمة المختلفة ..ويأكل في إغاظة قطع الشيكولا ..مددت يدي وانتزعت في يأس بعض فتاتها ..هاهي ما تزال في يدي ..كما ترون ...ماذا يجري لي ؟ فليخبرني أحدكم ..
كنا نحدق فيها بذهول ...وهي تروي هذه الحادثة العجيبة ...ليس في مظهرها ما يدل على الجنون أو العبط ..لا فهي تبدو امرأة متوازنة ...من ذلك النوع الذي عادة ما يوصف ( بسيدة مجتمع) كما يدل على ذلك مطبخها النظيف المرتب بعناية...همس لي أحدهم في أذني( حينما كنا هناك ..في المطبخ: رأيت ما يشبه طيفا لرجل يعبر مسرعا إلى خارج المطبخ...هل وصفته الزوجة بأنه رجل طويل؟ إذن فنحن نتحدث عن نفس الرجل...كان رجلا بائن الطول ..هناك علامة بارزة في وجنتيه ...ربما وشما من نوع ما ...دعنا نسألها..
رواية الزوج:
لي صديق غريب الأطوار..قرأ في الأديان والأساطير القديمة كثيرا ..حين تستمع إليه وهو يحكي لك عن" بوذا" أو طقوس اليوجا في التبت ...تشعر وكأنك تسبح في زمان آخر ..مكان آخر لا يشابه عالمك في شيء..يحكي لنا عن القوة الهائلة الكامنة فينا ...عن كيف نحرر طاقاتنا الحبيسة في أعماقنا من أغلال الجسد..شهواته...مخاوفه...عن كيف كان أسلافنا أقوياء:
( لم يكونوا مثلنا أبدا: كان الواحد منهم يعرف متى ينزل المطر ..تثور البراكين أو تمور الأرض بالزلازل ..كان يرسم على الأرض ما يرغب في اصطياده من حيوان ثم يغرز سهمه عليه فيموت على الفور أينما كان ويستهدي إليه بفضل قدرته الهائلة على الشم ..أما نحن فقد استعضنا بالتكنولوجيا عن ما فقدناه من قوى أسلافنا الرائعون ..صرنا نرى بها..نحس بواسطتها ...نسافر بمركباتها..حتى الحب ..وكل مشاعرنا الإنسانية صارت ترحق من مداد أثيرها قبلاتنا لمعشوقات من فسيفساء خيال الفراغ الذي يلفنا ..أما هم فكانوا يعشقون نساء من لحم ودم...يهاجرون إليهن )
كانت أحاديثه تسحرني ..تداعب في أعماقي ذكرى بعيدة لطفولتي بمدينة الأبيض " بغرب السودان" فقد كنت أرى من جدي العارف ومن بعده أبي الشيخ كرامات عجيبة : أذكر ذات مرة إن جدي أعطي أخي الأكبر عملة معدنية صغيرة ..أجهشت بالبكاء لأنه لم يعطيني مثلها ...قال  باسما مخاطبا أخي: هاتها ثم فرك بيده عليها بسرعة فإذا هي تنقسم إلى اثنتين ..أعطاهن لنا  وهو يضحك من شقاوتنا..وحين أخبرته أمي ذات ليلة بحادثتي العجيبة تلك  التي أصر أخي الأكبر القادم حينها من دراسته بأوربا على استشارة طبيب نفسي ..ضحك جدي وأمرها بأن تستدعيني ...قالت: انه مريض جدا ولا يستطيع النهوض فقد شل يا أبي..ولا يستطيع الكلام ..قال جدي وهو ينهض ..لا بأس سأذهب إليه ..كنت حينها..أستلقي على فراشي خائر القوى أرتعد فزعا مما رأيته في تلك الأمسية ..أسمع صوتي خارجا مني ..بينما تشير أمي بيديها بأنها لا تسمعني...أصرخ عاليا ..لا تسمعني أيضا ...أراني أسير في فراغ الغرفة...أحرك كل أطرافي كما اعتدت دوما...ولكني أراني مازلت على فراشي ..ثم أرى شخصا ما يشبهني تماما يسبح عاليا حتى يلامس سقف غرفتي...يخترقه محلقا في الفضاء البعيد.. وحين يرجع  يدخل في جسدي  طيفا من الضوء .. يحشد في ذاكرتي حين يتسلل إليها خلسا صورا لأشياء وكائنات لا مألوفة .. رجال ونساء لم ألتق بهم من قبل...مدن من ضوء غائم أو غمام مضيء يتسكع في أزقتها الضيقة فنانون وشعراء غريبو الأطوار..منهم من يقسم لك بأن روحه هي ملهم كل الشعراء في كل العصور تمد خيالهم بالصور الشعرية.. تتداعى  أمام عيناي  مشاهد تمثلني في مراحل مختلفة من حياتي ..مرة مع أصدقاء لم أعرفهم إلا في هذه اللحظة  مثلك أنت ( كان يشير بأصبعه أليي أنا بالتحديد ) ثم أراني مع زوجتي في مشاهد متعددة ..لا داع لذكر معظمها بالطبع فهذا أمر لا يعنيكم مطلقا....ولكني أذكر من بينها ما حكته لكم قبل قليل..نعم لقد صدقت إذ إني رأيت هذا المشهد من قبل أكثر من أربعين عاما أو يزيدون... وضع جدي كفه على رأسي وصار يرتل هامسا بعض الكلمات التي لم أسمع منهن شيئا...ثم في صوت آمر قال:
أذهب يا بني وأحضر لي  ماءا ..
قالت أمي:
كيف ينهض يا أبي لقد أخبرتك للتو بأنه صار مشلولا ..
نظر إليها معاتبا..
نهضت ..ثم قلت ضاحكا: سأحضره لك الآن يا جدي...أجهشت أمي فرحا ...وقالت:
لكم اشتقت إلى صوتك يا صغيري..ركضت كمن يريد التأكد من قدرته على الركض وليس المشي فحسب ..عدت بسرعة فإذا بجدي  ينظر إلي بنظرات أحس بها تخترقني من الداخل تتجول في أنحائي باستبصار عراف يجيد الغوص  في طبقات الروح القصية .. ويقول ...مغمضا عينيه كمن يطالع أطيافا  لا منظورة تسبح في فضاءات أزمنة  لم تجيء بعد:
لا تفعلها مرة أخرى على الأقل ليس الآن فلم يحن الوقت بعد..
دهشت كيف عرف بسري الصغير ؟ كيف أدرك ما كان يجول بخاطري حين حدث لي ما حدث ؟
رواية الصديق الغريب:
كان هو من بين الجميع ...من أحس دوما بأنه يفهمني جيدا ...بعضهم كان يعتقد إني مجنون..الآخر كان يرى في أحاديثي خرافات مسلية بعد قضاء يوم مرهق آخر.. من سعي الديدان الدائب للقوت الذي نحشده لها في أجسادنا المتخمة بكل صنوف لذائد بني الفانين..أما هو: فكنت أقرأ في عينيه تصديقا لكل ما أقول..كنت أحس بأنه يعرف كل ما أحكي عنه.. يألف كل تلك العوالم ، وبإمكانه أن يكمل أية قصة فور أن أشرع في حكايتها ...وكنت أنا أعرف كل شيء عنه منذ طفولته البعيدة تلك ..وما كان يحدث له من أحداث غريبة....هل حكى لكم شيئا عنها ...عن أخته التي توفيت وهي صغيرة دون الخامسة ؟ عن جده وكيف كان يطوى الأرض كريح...يتنقل في المكان كوشوشة النسيم ...وحتى ..كما روى الكثيرين يطير في الفضاء..أعرف عنه كل ذلك ...هل حكى لكم كيف حين أصبح رجلا ...كيف أتى إلى زوجته وهي تعد الطعام محض طيف ؟
رواية شاهد من أهلها:
أعرفها تماما منذ كانت بنية صغيرة ..لم يكن هناك أي شيء يميزها عن صويحباتها غير أنها كانت بارعة جدا في الرسم والتلوين ...كانت ترسم كل شيء ..الأشجار وتغريد الطيور فوق أغصانها ( نعم تغريد الطيور فقد سمعتها كثيرا وأنا أحدق في رسوماتها ) حين تطالع من ترسمهم من البشر تشعر بحيرة كبرى: هنالك هذا الرجل الغريب النظرات ...يظهر بصورة متكررة في كل رسوماتها ...رجلا طويلا موشوم الوجنتين بوشم غريب يشابه طلسما سحريا من ذلك النوع الذي تراه منحوتا على وجوه الرهبان في صخور الكهوف القديمة، حين سألتها عنه وهي في الخامسة من العمر وقتها..أجابتني .. لا أعرف...فقط أراه كل ليلة في أحلامي.
رواية شاهد من أهله:
كانت زوجته هذه الصديقة الوحيدة لأختي.. ذات ليلة كنا نتسامر ..وفجأة همست لي أختي:
هنالك أمر غريب أريد أن أحدثك عنه على أن تعدني بأنك ستكتمه كسر..لا تحادث به أحدا ..حتى أنا لا تحادثني فيه مرة أخرى..سر يتعلق بصديقتي:
ذات ليلة بينما كنت بمنزلها تثرثر ثرثرتنا المعتادة عن كل شيء وعن لاشيء..باحت لي بسر غريب ..قالت – بعد أن حلفتني ثلاثا أن لا أبوح بما ستقوله لي لأي مخلوق :
أنا أعرف زوجي هذا منذ طفولتي ...كنت أحلم به كل ليلة ..لدي رسومات كثيرة له رسمتها وأنا في الخامسة من عمري ...يمكنني أن أريك إياها..وبالفعل أحضرت صندوقا خشبيا قديما ..أخرجت منه أوراقا تفوح منها رائحة القدم  .. لدهشتي الشديدة رأيته هناك بقامته الفارعة ..بذات الوشم الغريب على الوجنتين  ...ولكن المحير في الأمر إن خلفه على الورقة كان هناك رسما شاحبا بعض الشيء لذات الرجل ..يبدو وكأنه ظل خفي ..أو طيف ...قالت لي:
ما رأيك؟  أليس هو ؟ ولكني لا أدري شيئا عن هذا الطيف الذي أراه في أحلامي كل ليلة يسعى خلفه كظل ..هذا...حدقي جيدا ...قلت لها ..نعم لقد رأيته بالفعل ..من هو؟
أخبرتني أختي بكل هذا.. احتفظت به كأقدس الأسرار وفاءا لذكراها فقد كانت عزيزة على قلبي ...ولم أبح به إلا الآن أمامكم فقط.
روايتي الخاصة :
أفضل أن أحتفظ بذلك لنفسي.
يحي الحسن الطاهر
جدة: 28/12/2011

       

       



     

الاثنين، 19 ديسمبر 2011

ما لم تقله الموجة - قصة قصيرة

                                                                                        مالم  تقله الموجة
                                                                                                                               قصة قصيرة – يحي الحسن الطاهر

ليس الآن أرجوك...فأنا متعبة بعض الشيء..هكذا ابتدرت الموجة حديثها للنورس الذي كان يحاول –في تصميم تعرفه كل النوارس – إقناعها بأن تتدافع عاليا وتهبط كي تسمح له باللعب، ولأن هذا ما يجيده الموج ..من ناحية أخرى  ، أليس هو ابن السحاب؟ إلا يحن إلى الفرار من مستقره الأرضي إلى هناك ، حيث طفولته غماما يحلق في أجواز الفضاء ؟ مزدهيا بنقائه الشفاف، وهاهو الآن متدثرا بالطين، ومليئا بكل ما يلقي في جوفه من قمامة وأوساخ، جثث وطحالب، تاريخ من شهية افتراس كائنات تسكن جوفه السحيق.. كأحزان اليتامى في ليلة شتوية تزمجر فيها الريح مرددة صدى فحيح أمعائهم الخاوية  . ... حاول النورس أن يثير أشجان الموجة إلى مواطنها البعيدة، ويذكرها بما هي فيه من بؤس راهن لا يسمي الأعالي موطنا...
لا..قالها الكاتب: هذه ليست بداية جيدة للقصة، فلأكتب حول القمر، وهذا الحزن الذي يلفه كل مساء وهو يطالع من صحرائه البعيدة، صبية القرية وهم يتقافزون بمرح، وتكركر فقاقيع ضحكاتهم البهيجة عاليا.. حتى تلامس أخاديده العميقة ، التي حفرتها أزاميل أحزانه الطويلة ،كانوا يضحكون بكل سعادة  بينما تنهشه قوارض عزلته القاسية ، ويتذكر طفولته ، وكم كان شقيا حينها ... كان  يطارد الخراف التي يشكلها السحاب ، وهي ترعى في أعشاب السماء ، تتقافز بمرح سعيد ، وهي تطالع  الفتيات  اللاتي تشكلهن مجموعة أخرى من السحب ، وكان هو جزلا بكل تلك الحفاوة ، الآن لا يرى سوى الريح تركض في سهوبه الفسيحة ، وهؤلاء الصغار الذين يتقافزون ، وهذا الكاتب الذي  يطارد بهوس محموم  ما يتجول في مخيلته من أطياف متسللة عبر شقوق ذاكرته المجهدة ..  
لا ...لا تبدو هذه أيضا، الافتتاحية التي أحب ، أشعل لفافة من التبغ، وراح يذرع الغرفة جيئة وذهابا  عل هذه الحالة التي قرأ إنها كثيرا ما تتلبس الكتاب العظام ، تكون شفيعا له في أن يستنسل من مخياله المكدود، استهلالا رائعا يلف فسيفساء الصور المتلاحقة لشخوص قصته ، في نسيج منتظم ، يعطي لقصته ( عنها-بالطبع- عن فتاته السمراءـ.. تلك التي تتمشى على مرمر نعاسه كل ليلة حافية الروح إلا من النشوة...  ) حيويتها كقصة ، ولكن ماذا يفعل بكل هذا الضجيج الذي يصدره الصبية ، وهدير الموج وصياح النسور ، وبخاصة صياح النسور الذي  يذكره أشجانا قديمة ، يحاول دوما إبعادها عن ذاكرته فتمعن في إلحاحها كهذا الطارق اللعين على باب غرفته.
حسنا-همهم في ارتياح كبير- على الأقل أدرك الآن: إن هنالك موجة ..ونورس..وقمر ...وبعض الصبية ، ثم هنالك هي-أعني –حبيبتي السمراء ..سمع طرقا صاخبا على باب الغرفة ..
تفضل –قالها بصوت عال كي يغطي بحدته، ما يدور في داخله من فوضى الأصوات الصاخبة..قبل أن أفتح الباب  أرجو أن أذكركم جميعا  -يا من ستقرؤون هذه القصة فيما بعد – قال وهو يحدق في أفق لامنظور في جمع من القراء ، تذكروا جيدا ما كنا بصدده: هذه القصة تدور عن حبيبتي- كما قلت لكم ، وهنالك قمر وصبية ونورس يجادل في موج البحر .. هل اتفقنا؟ لا تنسوا ذلك ..حسنا دعونا إذن نرى من الطارق...وسنعود لنرى كيف نشرع في هذه القصة..اختفى الطرق الآن ..هل مل الطارق، هل استغرقت كثيرا من الوقت لأستجيب..أخبروني أنتم ، فأنا كنت منشغلا كما تعلمون في تتبع كل هذا الضجيج ، ولكن ..لا بأس ..سيعود الطارق حتما ..حسنا ما رأيكم في هذه الافتتاحية لقصتنا:
كان يجلس بجوارها ..وكانت الشمس في أصيل ذلك اليوم ، تشعر ببعض اللهيب في داخلها وترنو إلى البحر ، وهي تتمنى أن تذوب في جوفه علها تلطف أحشائها بمياهه الباردة ، كانت فتاته ترنو إليه وهي متعجبة من صمته البليغ، الذي بقدر ما يمتد، بقدر ما تحس بشغف وفضول أكثر ، قال وهو يشير إلى الموج:
أنظري حبيبتي..أنظري للماء،
فجأة سمع طرقا مرة أخرى على باب الغرفة ، ذهب سريعا في هذه المرة كي لا يدع للطارق فرصة للغياب  تعثر في طريقه إلى الباب ، بأثاث الغرفة ، التي كانت –كما هي دوما – مليئة بفوضى عارمة: هنالك أوراق تتبعثر في كل أرجائها ، بعض أجهزة كومبيوتر قديمة تناثرت أشلائها في كل مكان ، أطباق طعام بها بعض البقايا، أكواب القهوة والشاي ، وبعض من فتافيت أحزان وحدته العريقة .. على الطاولة الوحيدة بالغرفة ، يتطاير غبارها الكثيف في كل أرجاء المكان .. فكر: ينبغي أن أجد وقتا لإعادة تنظيم كل شيء هنا أو لم لا أشرع في ذلك الآن؟...أين قرأت هذه الجملة: الأنثى روح المكان ؟.. نسى إن هنالك طارقا بالباب وطفق يلملم الإطباق..يرفع الوسائد الملقاة على أرضية الغرفة، يزيح بعضا من غبار أشجان وحدته العالقة بقماشها القديم.. ثم فجأة تذكر: هنالك شيئا ما دفعني إلى مغادرة طاولة الكتابة..ماهو ..آه ..كم أنا غريب..كنت أنتوي إعداد كوب من الشاي ..ولكن ..يا للتعاسة ..لقد نفد كل ما لدي  قمر..لا بل أقصد شاي ..لا أدري ماذا أصابني الليلة ..وحدها صورة أمه المعلقة على جدار الغرفة وهي تبتسم  برضا صوفي ساحر لم ير مثله إلا في  وجهها كانت تشع روحا من الدفء في الغرفة ، وقد كتب تحتها بخطه الطفولي –حين كان ما يزال تلميذا يتعثر بين أسنان السين وحواف الحاء ، نقاط الشين ، وذلك التجويف المهيب للعين ، كتب ما أملته عليه ذات مساء غائم:
كن كالنخيل مرتفعا ...بالطوب يلقى فيرمي أطيب الثمر.. 
نظرت فتاته إلى الماء وهمست:
ماذا ..لا أرى شيئا ...أليست مجرد ماء؟
لا ..أنظري جيدا ..ليست فقط ماء..أنظري..
صاح أحد الصبية في رفاقه:
ألا ترون كيف يبكي القمر..
يبكي القمر؟ هل أنت مجنون ؟
صاح به النورس الذي غفل قليلا عن محادثة الموجة ، اضطربت الأشياء جميعا في رأسي ..ماذا أفعل ..الكل يصيح في ذات الوقت ، والغرفة تمور في فوضى عظيمة ، ولم أجد بعد شايا ..فليكن ..لنعد أيها الرفاق إلى حيث كنا..
لا أرى شيئا غريبا..
همست فتاته وهي تمني النفس بأن يدع جانبا كل هذه التهويمات التي أعتادها كلما اختليا..ويفعل شيئا طالما سمعت من صويحباتها إن  الفتيان عادة ما ...
اقترب النورس منهما وصار يحدق بغرابة واضحة فيهما..كانت أشعة القمر المنسكبة على سطح الماء تديح دوائرا متراقصة تتراكض مد البصر .. تذكر شاعرا ألمانيا مهووسا بالقمر: ألقى بنفسه في ماء البحيرة كي يعب من هذا البهاء السماوي: أشعة القمر المتراقصة على ماء البحيرة، هل كان يشعر بالغيرة في أن يتناثر معشوقه السماوي خلايا من الضوء الفاتن تترقرق على جسد الماء في نشوة جنسية بديعة ؟ لا يهم ..  حسنا ..لا ترين شيئا غريبا أليس كذلك...أنصتي إذن..ودعك من هذا النورس ..أليس مدهشا أن الماء يطل على حواف الوجود جميعها..فهو ..كما ترينه الآن سائلا..وقبلها كان مجرد غاز يسبح في السموات البعيدة ، ويكون صلبا كما تعلمين ..ولكن ..أنظري إليه، كيف تتحد ذرا ريه : هيدروجين وأوكسجين كما يقولون ..ماذا لو انفصلت ذراري الماء ..مرة واحدة والى الأبد؟
شعرت الفتاة بخوف يتسلل ببطء إلى كل خلايا جسدها بخلس ثعباني من هذه الخاطرة ، فجأة وبنصف انتباهة تحاكي من يسير أثناء نومه ...وجدت نفسها تلتصق به قليلا قليلا..وتغمض عيناها في سكون ناسك يرتل تسابيحه .. مباخرا  خفية كانت تنشر عبق صندلها ..وتلك الروائح التي تزفها النار –معشوقة الريح قربانا لانصهار الأرواح الملتاعة ..   رأته ..في تلك الأمسية ..كانت تتجول  مع صديقتها على رمال ذات الشاطئ الذي تجالسه فيها الآن ..وكان هو يجلس وحيدا ..اقتربتا منه ..وحين التقت عيناهما شعرت بهذه القشعريرة الغريبة تتمشى في كل أنحاء جسدها...تتسرب سابحة في الأثير ..وتحاول هي لملمتها حتى لا يفتضح أمرها ...كانت صديقتها تحكي بشغف وحماس  حكاية طويلة لم تسمع منها شيئا ...فقد كان وجيب قلبها الخفاق كطبول الدراويش بقريتها البعيدة وهم يرتلون أناشيد محبتهم الوالهة يغطي على كل شيء..
لا أريد أي أحد ..قالها بجرأة وحدة للطارق الذي صار أكثر إلحاحا ..ولا أريد هذا الشاي اللعين ..وأنتم..أيها الصبية ..أذهبوا ولتلعبوا بعيدا..
أيقظها صوته الحاد وهو ينتهر الصبية من أحلام يقظتها...رآها تجفل فزعة..تتقافز بين سطور الكتابة.. تصعد عاليا في قمة حرف( الألف) تتلوى ثعبانا مقدسا حول( الحاء) ثم تستدير لالتقاط أنفاسها المذهولة في المهد الدفيء( للباء) ثم تتخفى في قبو( الكاف) المتعرجة لتدفن حياءا تتمشى رعشاته حول جسدها الرقيق.. حين تكتشف إنها ترسم بحركاتها الرشيقة على بياض الورقة  ما يردده فتاها دوما في أذنيها ..كانت يطاردها الأطفال والموج ...ما رأيكم ..يبدو إن قصتنا تتقدم أخيرا..رأت نفسها مرة أخري تسير بجانب رفيقتها ..هاهو يقترب منهما ..ماذا يريد..شعرت بقلبها يتقافز حتى خشيت أن يقع بين قدميها...انه ينظر إليها هي بالذات ..يا للهول ..هل أحس بهذه القشعريرة في بدني ؟ اقترب أكثر ...أمسك بيديها ..مغمضا عينيه....وقال:
أنا أيضا أحسست بذلك ...نعم ...ذات الرعشة التي تشعرين...ذات التوق ..سمعته الآن ..وهما يسيران على رمال  الشاطئ  يقول بصوت دافئ عميق وكأنه صادر من ينبوع  باطني:
ماذا ...أين ذهبت ؟ كنت أحادثك ...لم تجيبي على أسئلتي المتلاحقة ...وضع القلم على الطاولة ، ذهب لكي يشرب ماءا..وحين عاد ، رأى الصبية يتسللون من خلل شقوق نوافذ الغرفة كأطياف بلورية ، تواصل الطرق على الباب ، نظر إلى أحد الصبية بإيماءة ، أن يرى من الطارق ، ولكن الطفل الشقي لم يغادر مكانه المعلق في فراغ الغرفة ، كان القمر حينها يطل بكامل فتنته السماوية من خلل النافذة ، الموج يهدر بالخارج ، بينما الورقة التي يكتب عليها قصته كانت ما تزال  بيضاء تماما.اقترب منها ...تشممها ..كانت معبقة بالعديد من الروائح ، استطاع  أن يميز بينها، رائحة فتاته بكل أنوثتها الساحرة ممتزجة بتلك الرائحة الغريبة للبحر ، وضع الورقة في أذنيه ، صوت النورس وهو يستجدي الموج كان بائنا ، ولكن ما أدهشه حقا كان طعم الورقة حين تذوقها ، كان كطعم شفاه حبيبته الذي لم يذقه يوما  لكنه يعرفه  جيدا ، فكم قبلها في أحلامه ..حمل ورقته إلى إحدى الصحف اليومية، أرشدوه إلى رئيس القسم الثقافي...
كان جالسا في مقعد وثير ، يرتدي نظارة سميكة
أريد أن أنشر هذه القصة بصحيفتكم...لقد فرغت منها للتو...
جيد...دعنا نراها ...نظر الرجل إلى الورقة الفارغة ...ثم نظر إلى الكاتب بريبة ...
قصة ؟ أين هي ...هذه ورقة فارغة ...
لا ليست فارغة ...تشممها ...تصنت إليها و لكن لا تحاول تذوقها كي لا يظن بك الناس الجنون ( كان يضمر في سره سببا آخر لدفعه بعيدا  عن تذوق الورقة  )..
هل أنت مجنون؟ قالها الرجل في غضب ، إن لم تخرج حالا استدعيت لك رجال الأمن ..
لا حاجة لذلك سأخرج الآن...ليس خوفا منك أو رجال أمنك...بل لا   أود لمثل هذه القصة الرائعة   أن تنشر في أي صحيفة..حمل الورقة بعناية وخوف، وقفل راجعا إلى غرفته ممنيا النفس بقراءة طويلة وممتعة.
حين أفاق  صباح اليوم التالي ، رأى كيف يناثر الفجر بثور ضيائه في جسد الغرفة فقاقيع نشوة عذبة لغزله الحميم مع ظلام ليلته الموشك على الرحيل كثلج مقبل على الذوبان ، أحس بحنين مباغت لفتاته، ومض كبرق خاطف ، لا يدري لم يذكره الاندغام الحميم للمتضادات دوما بها : تلك المسافة الشفيفة بين الصمت والصوت ، الظلمة وأول الضياء ، الغياب وبشارة الحضور ، هي موطنها الأليف  يراها دوما تقطن هناك ..في تلك البرهة البرزخية ، بين العدم والحضور، حين نام تلك الليلة ، لم ينس ، كما هي عادته دوما، أن يضع تحت رأسه تلك الوسادة العجيبة.. التي أهداها له صديقه الياباني ، وأخبره بأن الجميع هناك لا ينامون.. إلا إذا وضعوها تحت رؤوسهم ، فهي ( تجعلك تسيطر على أحلامك ، تتخيل أي الأحلام ترغب في هذه الليلة  وتنام فقط تاركا للوسادة مهمة صياغة ونسج هذه الأحلام تماما كما ترغبها ، هكذا أخبره صديقه ، مندهشا  كان من  جهله بهذه المعلومة البسيطة ، لم تسمع بها من قبل؟ يا للغرابة ، هذا أمر معروف للجميع ، لا يهم ، خذها ..وهكذا..في هذه الليلة قرر أن يرى هل تستطيع هذه الوسادة السحرية، أن تختلس فتاته من مرقدها البعيد وتغويها بنزهة سعيدة في مرمر أحلامه، ولكن...تساءل في قلق ..أي مشاهد أرغب حقا أن أحلم بها مع من تساكني عقلي وروحي ..كيف لي  أن أهجر حضورها ..كي أنسج عبر نول أحلامي ما تكونه في الغياب؟            دهش حين رأى الورقة تنفسح فضاءا بديعا، كانت الآف النوارس  تتصايح في أعلى يمينها ، في الأسفل يهدر الموج ، بينما كانت فتاته هناك ( كانت ساقيها تحكيان عن تاريخ من التسكع الجميل في شوارع فرح تزينها خطواتهما معا راهبين  في محراب  عشق خرافي العذوبة  ، بينما عيناها تجهشان بأنوثة سماوية  ، كتنفس ياسمينة تتشقق عن بذرتها للتو ، مانحة الفراغ عطر وجودها ، جسدها كان  تلك السيمفونية التي أضاعتها سيرينيات بحر ايجة قبل ألف عام ، وهاهي - كما الموسيقا دوما- تتسرب بمكر من ذاكرة  الآلات إلى أنثاه ، ( حين مر ذاتمساء بالغابة ، رأي أن هناك جذع شجرة  ما ...  يتمدد في صيرورة تحولاته  عبر الثقوب اللامرئية في  ثوب الزمن..  إلى  آلة المكان التي يعزف بها صديقه ، الكوبي ذو المزاج الشاعري المفعم بأحزان الأصفياء ، نظر إلى الجذع  ، اقترب منه أكثر ...وضع إذنيه في تصنت عميق لإصغائه الحميم وهو يحكي  قصته ..هاجر معه في رحلة  طويلة ، قاسى معه كل جراحات المناشير الكهربائية الضخمة وهي تنحت جسده  ( عرف فيما بعد إن التأوهات العميقة التي تصدر من نغمات الكمان هي صدى للآلام  الهائلة التي مر بها منذ أن غادر موطنه البعيد في تلك الغابة ، مقذوفا به بين أكداس من البضائع  في جوف السفينة الضخمة ، لكنه لم ينسى تلك الآلام ..سترجع صداها أمسيات  مدائن بعيدة  ..ستكون عزاءا للحزانى ...لا بأس إذن ....هكذا كان الجذع يهمس في إذنه..أنا أكثر حظا من الجميع ...بالأمس فقط علمت  بأنهم صنعوا من بعض أشلاء  أخوتي  رسلا للفناء..بنادق وأسلحة أخرى ..هكذا أخبروني ...أما أنا فكما ترى ...أغبط حظي كثيرا ..تتبلسم جراحاتي بتلك النظرات الفاتنة من  حسان يتسمعن ما يصدر مني من أنغام ..و..و..) صار الصوت يتلاشى...رويدا رويدا..كان مستغرقا في هذه الصور البديعة من الذكريات عن صديقه الكوبي    التي تتناسل بخصوبة من مخيلته وهو ينظر إلى الجذع ويستمع لهمسه.. لا يدري سرا لهذا الارتباط الذهني الغريب بين جذع الشجرة وهذا العازف ، فكلما مر بالجذع ، أحس بالاختناق من الدخان الكثيف  المتصاعد من سيكار صديقه في فضاء الغرفة وهو يدوزن أوتار الكمان ، وحين يقترب من الجذع متحسسا لتعرجات الزمن وهو يتمشى في مفاصله ...يسمع  تلك الضحكات المدوية لصديقه وهو يصيح به :
لا ليس هكذا ...لا تعبث بالأوتار بهذه الصورة المضحكة ..لن تتعلم العزف أبدا بهذه الطريقة ، حاول التركيز قليلا ..اقترب من الجذع وألصق أذنيه جيدا ..وفوجئ تماما، بأنه في ذات ليلة سمع ذات النغمات التي كانت تتفجر جداول موسيقية صغيرة تجري في نسغ الجذع ، سمعها في تلك الليلة وهي تنطلق من أنامل صديقه ممتزجة بعبق سكائره في هجرة أثيرية إلى مواطن الموسيقا البعيدة في أقصى أزقة الروح وحواريها البعيدة ، تلك المواطن التي تسكنها الموسيقا كما هو معروف .
لم يفلح النورس في إقناع الموجة بمشاركته اللعب، حاول الصبية استدراج أحد الصيادين النزول إلى الماء بزورقه البخاري كي يحرك سكون الموج، حتى يسمح لصديقهم النورس باللعب، قالت الفتاة وهي تنظر مليا في سطح الماء:
لا أرى أي شيء غريب ..
حسنا ..إلا تسمعي شيئا؟ ماذا تقول لك تلك الموجة  ؟
                                                                                                            يحي الحسن الطاهر- جدة 18/12/2011م


                                  
     
  

               

الأربعاء، 26 أكتوبر 2011

عشقنامة أو كتاب العشق

عشقنامة ..أو كتاب العشق
قصة قصيرة
يحى الحسن الطاهر
مزيج من صباح ناعس تشقشق عصافيره البهيجة على فنن القلب ، غناء لذتها في فوضاها الحميمة مع  قهوة داكنة الرعشة ، تتسلل الى أطرافك خدرا لذيذا يسخر من خمريات أبي نواس ، فتشهد ان لا عشق إلا لها ..ولا فناء إلا فيها وبها ،وتصلي حامدا  ان جعلك العشق حواريا مذهول اللب  مسكونا بأريج فتنتها التي تتقاطر من شرفة عينيها المطلتين على كون أحزانك المترامي الأطراف في أقصى أزقة روحك وحواريها البعيدة ..  ، هكذا وصفتها إحدى موجات هلوساتي المجنونة ، ولكن مهلا ، للقلب  أن يفترش النجوم مسهدا عل ألق  نجمة بعيدة   تباكر شاطئيه  بأنثاه التي تتمشى حافية القدمين على مرمر الروح ..عارية إلا من النشوة التي تسكن سيمفونية الجسد لحنا يسكب قوارير عذوبته كغمامة حانية تحكي عشق الماء الى يابسة  بعيدة مسكونة بجنيات الرمل في موطنها ( الأبيض ) بغرب السودان ، حيث شهد إحدى صباحات مارس المباركة كيف تسرب فتنة الأنوثة مرمر نعاسها وتستوطن أجساد البشر .
بعضهم ذهل من هذا السر الكوني البديع، بعضهم أخذته عزة الحزن بإثم عدم التصديق، إذ كيف لهذه المدينة المنسية أن تزدهي بأجمل برهة فضت فيها ( الأنوثة ) مغاليق أسرار فتنتها الأخيرة هكذا بكل بشاشة وسحر؟   
 كانت صرختها الأولى ، وهي للتو مولودة تلثغ بهاء أبجدية حضورها عبر شقوق الزمان ،  كما أقسم من شهدوها، كانت خليطا رائعا  من قهقهة حارقة كيدا وتشفيا على فناء  زمان القبح الذي عمر ( أرض الفنانين) طويلا  ملقيا عصا تسياره على رمال المدينة، وإيذانا بتاريخ سيادة الجنون العاشق والعشق المجنون.
لم أك  برهتئذ ، ألتحف حزني العريق ، كما هو حالي دوما ، بل –كنت – للغرابة ، أراهن على كيد زمانيتي العتيدة..  التي تسميني نبيا أضاع خاتم سليمان بهجته،واستعاضه لا مبالاة ممعنة في لا مبالاتها بأن تبالي بشيء أو بحي ، كنت أراهن على شدة بأس الزمان في تضييع ألق وسحر برهات العذوبة في نهر تعاسته الهادر  كنت حينها أكتب الشعر استمناءا لعالم تستوطنه أنثاي..تلك  التي تساقط ثمر أنوثتها جنيا من نخيل أحزاني الفارع الطول كقافية جاهلية .. المدبب الحواف كصراخ طفل جائع ، حين أتت هي .. غاب الشعر ( قلت لأحد أصدقائي مباهيا: هي قصيدتي التي حلمت بها كل قصائدي..وهاهي ذي تسطرها نبضات قلبي..فكيف أكتب شعرا؟ وقصيدتي تساكنني جسدي وعقلي؟ كيف..- بينما أتنفسها –ألفظها زفيرا من حبر ؟)..
 كانت ( الأبيض ) في ذاك الصباح المارسي تحشد كل فتنتها كي ترسم بذراري رمالها كرنفال احتفاءها ( قال بعضهم : ان النوارس التي تحلق في سماء ذاك اليوم لم يروا لها مثيلا في كثرتها وغرابة أصواتها التي لا يسمع منها بوضوح غير : نشهد ان لا عشق إلا أنت ،ان العشق والفناء فيك أنت ..لا جنون إلا بك ) حشدت الطبيعة كل مزاميرها..أتت أشجار السرو وهي تمايل أغصانها في دلال –تحاول جاهدة أن تضاهي تمايل جسد أنثاي ، كانت صغار الملائكة التي تتخفى في كنف الأغصان تغني في حبور ، فر أحدهم بشقاوة ومكر طفولي واستقر على صدري هامسا( نعم ..ما تظنه صحيح ..إنها هي..ليس ما بك هذيانا ..ولا هي ضلالات الشعر وتخاريف الشعراء..لا.. هي فعلا ولدت ..إلا تسمع صراخها ؟ إلا ترانا قد حشدنا نغنى بهاء الميلاد؟؟..).. احتشدت كل عناصر الجمال في مباهلة  : أيها يكون برزخا مباركا يلملم ما تفرق منهم في جسدها وروحها.. كي يعيده إليهم بدلا عن ما استبدلوه من أطياف  ترنو الى أصولها  ، فالنسيم ، حاول برقته المعهودة  أن يستضيف حلاوة الشهد ويعبق برحيق الورود خاصرته وهي تتمطى في فناء الريح ، خرير ينبوع يخالس النظر من مكمنه ، زعم ان يحاكي عذوبة صوتها وسلسبيل ضحكتها ، فاته ان الآف العصافير  الضوئية الرقيقة، تركت حناجرها الفضية  تسقط سهوا في حلق فتاتي، وسكنته فضاءا حفي الإقامة ، أما القمر ..فقد أقبل على استحياء من صحرائه البعيدة ، ليرى من يمكنه من الفوز باختلاس بعضا من لألاء وجهها وضياء وجنتيها، ضجت الكائنات بقلق من هوياتها العتيقة ..حاولت التسكع في هويات أخرى ..كي تصير مثل أنثاي ..القمر أشتهى لأشعته حرية الريح ..الماء هش وبش لعبير الأزهار وغناء الأطيار ..في فوضى الهوية تلك ..كانت ..هي وحدها..تبتسم في رأفة فقد علمت استحالة أن تنتجها عبقرية تحول ما..فحتى لو اجتمعن جميعا لن يستطعن لملمة ما تفرق فيها من مطلق الجمال في كيان واحد..فللقمر أن يختلس من الزهر غضارته وللنسيم أن يتزيأ بخرير المياه جسدا ورشاقة السرو ، لكنهم باخعين أنفسهم على آثار فتنتها قصصا ..فهي..خرافية العذوبة...أسطورية الألق... وبعشق الثعابين المقدس  للتملص من جلودها العتيقة ...انزلقت  الهويات فوق بعضها : فهاهو النسيم يئن من ثقل القمر ، وهاهي الوردة تتشكى من عنفوان الماء ، وهناك في البعيد سرادق عزاء نصبته الآف الطيور حزنا على فرار أعذب نوتاتها في سرنمة سرية الى همهمات فتاتي وهمسها .
تعجبت إذ رأيت أبويها ( بشرا من طين ) يأكلون الطعام ويمشون في أسواق أبي جهل  ...وأمدرمان  ودهشت كيف ينجبان قصيدة ؟ وذهلت منها أكثر: كيف تفر من عاليات غيوم الشعر وتسكن أجساد البشر!!!
نظرت الى مغيب ذاك اليوم..كانت الشمس للتو قد فرغت من تدبير أمر اختفاءها في جوف النهر الذي كان بدوره يرتب للقمر انعكاسه الفضي كدنانير بيضاء واهبة بهاءها السماوي  ..كان يوما بديعا ..تزيت فيه الطبيعة بأبهى حللها وخرجت على الناس في زينة لم يألفوها من قبل .. الشمس قبل مغيبها كانت حيية خجول كعذراء في خدرها ..لم تكن كالمعتاد صارخة الحضور.. ..كأنها تقدم برهانا ساطعا على إلوهيتها الخفية وسطوتها على  كل مافي الكون، التي تنمنمها منحوتات عبدة آمون ...لا ..أقسم جدي بلحية أبيه.. وبخط الشيب برأس أمه ..إنها  كانت شفيفة كثلج يقبل على الذوبان ..الأزهار في أغصانها كانت تتمايل طربا على سيمفونيات لذة وثنية خفية، تتصاعد كبخار شاي من مسام أرض فرحة ..بوعد المطر ومجيء الزنابق ..وتفتح قرنفل الوقت على بشريات الميلاد ..حدثني جدي .. وفقاقيعا ملونة من فرح خفي تتراقص على وجنتيه ..التي سرح الزمان جداوله المتعرجة فيها ندوبا وتعاريج،  تحاكي جروف نهر منسي  يتشقق طينه  نعناعا وبيادر قمح ..وكنت حينها دون الخامسة بقليل :
( حين ولدت أمك : كان القمر يلعب مع السحاب ( الاستغماية ) يطل من حيث لا تتوقعه الأنظار ..وكان السحاب خرافا ترعى في أعشاب السماء ما تستنبته كف الرحمن ، كنت أصلي المغرب حينها ..بينما يشرق في قلبي وعقلي فيض رحمات علوية ..سمعت تصايح النساء ..قدمت إحداهن ..بجسارة ..متحدية كل قوانين الذكورة الفجة في مجتمع القرية ..الى مجلسنا نحن الرجال .الى الديوان-ذلك الكنف الآمن لسطوتنا على النساء - كما كنا نسميه .قالت : صهيب ..صهيب ..صهيب : اليوم ولد ت زوجتك  بنية ..أخشى عليها من كيد ( إخوة يوسف) حين ولدت لم تصرخ مثل جميع الأطفال ..اكتفت بابتسامة صغيرة أضاءت جنبات الغرفة ..حتى بهت  الضياء الشاحب لمصباح ( الكيروسين ) خجلا من شدة سطوع ضياء عينيها  قال جدي..يا ولدي ..لا تسلني كيف تراقص قلبي طربا حتى خشيت أن يقفز خارجا من حرزه الحريز في قفصي الصدري ....تناسيت بدوري كل قوانين خوفنا من الأنثى التي نسيج بها ذكورتنا كصدفة سميكة من غائلة فتنتهن..لا تتكسر قشورها إلا حين تستخفنا النشوة في الفراش ليلا فنبوح  وقتها بما ننكره جهارا في الصباح ..جريت لاهثا حيث جدتك ترقد محتضنة برعما سماويا لزهرة من لحم ودم ..أسميتها ( آمنة ) لتأمن من عين جنيات القدر من جن وبشر ..كنت  أستمع الى جدي  وأنا مذهول اللب ..كيف يحكي ما سيأتي بعد أكثر من ثمانين عاما أو يزيدون؟ ..عجبت كيف يستدير الزمان كقرص عجين في يد ( دمشقي يجيد صنع الفطائر ) فهاهي ( الأبيض ) تشهد ما شهده جدي في مدينته القاطنة في الشمال  قبل ما يزيد عن نصف قرن ....عجبت من ( ثعبانية الزمن : كيف يستدير رأسه كي يلثم ذيله ؟ في رقصة وثنية فيها كل طقوس السحر والغرابة.. وفتنة غموض نعومة الثعابين ) تلك كانت أمي..أما هذه فحبيبتي .وللعجب...فهي ابنتي..نعم ..ابنتي:لماذا تندهشون أيها السادة؟ من قال بأن الرجل لا يحبل؟   ألم أحملها في أحشائي حلما ..ألم تتكور في رحم تعاستي بشرى بالخلاص من إسار حزني العريق ووحدتي المجوفة كقاع بئر عميق ؟ هي ابنتي ..التي ولدتها من حنيني الى أروع رفيقة في الوجود لروحي شقيقة الأصيل ..ابنتي وزوجتي ..وأم أطفالي ..وأمي ..هي – ببساطة- عالمي الذي إليه أنتمي ..وبظله أحتمي ..هي كوثري  ..وفراري مني ..إلي .. كانت تتكور بداخلي وعدا ..وكما تحبل النساء ويلدن أجنة مشوهة ..وحبلا زائفا في بعض الأحيان ..كانت كل من أنجبت غيرها من النساء كذلك ..ولدت الكثيرات قبلها ...كنت أحسبهن ( هي) جنيني المدهش الذي يكركر في داخلي نشيد ميلاده البهيج..حتى  ولدت أخيرا ..بالطبع ..أعرفها كجوعي لها ..كعطشي لزلال قبلاتها ..وكرائحة كوثر عناقها ..كيف لا أعرف من استجن في أحشائي كل تلك السنوات ؟  منذ ميلادي  كانت حياتي كلها ..بكل تعاساتها ..تمرينا لي ...تهيئة كي يحتمل قلبي المثقل بالحزن بهجة حضورها.
لم تكد شمس اليوم التالي لميلادها تشرق على كون سعيد بهذا الحدث البهيج ، حتى بدأ كل شيء وكل حي يعرض أثواب فتنته في كرنفال غريب :فالطيور المحلقة في فضاء ذلك اليوم كانت ترقب في غبطة نادرة كيف تنخر زنابق العشق منسأة حزني العريق وتجعل- بما مكنتها العناية-  من رمادها بيني وبين التعاسة ردما ..غاب نباح الكلاب ..سكنت الريح إلا من  ترتيل خفي من مزمور سعيد يتمشي كسلا بين أغصان السرو وحشائش شواطئ القلب..القمر ..كان هادئ الزرقة..كان الجميع يحسبها ليلة القدر ..حتى نبههم جدها العارف ( سيف الدين ) صائحا :
        نحن لسنا بعد في شهر الصوم أيها الغفلة.. كما نحن لسنا في الليل بعد..إذ لا ليل لهذا اليوم..بل لا صباح ...ثم غمغم في سكون: مالي مضطرب هكذا على غير العادة؟ ماذا جرى لي؟ ..بعد تأمل واطراق مليي عرف ان لأمر حيرته صلة بميلادها ..كبر ثلاثا..وغاب في غفوة سعيدة رأى فيها.. كما يرى النائم:
  ( كنت ..كأني في أرض غريبة ..لم أر مثلها في البلاد ..كانت أشجارها تنبت ثمارا بديعة: فشجرة الليمون تلك ..بها ثمار تفاح ومانجو وكمثرى  وجوافة وموز وبعض ثمرات  يانعة من الأناناس ..عجبا ..كيف لشجرة واحدة أن تحمل كل تلك الفواكه في آن واحد ؟ كنت مستغرقا في حيرتي ..حتى صاح بي صائح من بعيد : إذا صفا القلب ..رأى ما لا يرى..كان الصوت يهدر داخلي كينبوع خفي لم أدر له مصدرا..حتى ولدت هذه الطفلة ...فحين اقتربت من أذنيها كي أتلو عليها الآذان مثلما اعتدنا ...سمعت ذات الصوت.. ولكنه كان في هذه المرة آتيا من فم الطفلة: أنا تلك الشجرة يا جدي .. تحوقلت ثلاثا...وأعذتها وذريتها من الشيطان الرجيم ).
   كان جميع من بمجلس (العارف سيف الدين) مطرقين من جلال وجمال ما يحكيه وقد ألجمت دهشة عظيمة ألسنتهم ..وحبستها في الحناجر.. كاظمين بهجة عميمة بحظوة أن يكونوا شاهدين على هذا البهاء البديع.
سمع الجميع لغطا عظيما في الفناء الخلفي للمنزل ..كانت الأبقار والماعز والخراف تتصارع في أيها تناله حظوة أن يذبح قربانا يزف بين يدي اسمها ..سمعوا بصفاء كل غمغمة  من خوار وثغاء  ..كما اندهشوا كيف تجيء الآف الطيور من مهاجر بعيدة يحدوها فأل أن تكون أول من يذبح ابتهاجا:
لم نعرف من قبل فداءا تذبح فيه الطير ...ولكن ما رأوه من أحداث جليلة جعل عقولهم مهيأة لكل استثناء مهما بلغت غرائبيته ..فمن كان يظن ...لوهلة..أن تستحم الآف البطاريق على شاطئ( الأبيض) الرملي الذي – كما يقول أسلافهم – كان يستحم بنهر كبير.. أطول من نهر النيل نفسه بالآف المرات ..ولكنه اختفى لأسباب لا يعلمها إلا العارفون.. الذين لا يبوحون بذلك السر، إلا لخلاصة خاصة الخاصة ورحيق ختام الأصفياء..كانت حيوانات الفقمة المرحة والدلافين تتقافز في بهجة غريبة وإغاظة لأسماك القرش التي كانت بالكاد تلجم غيظها لكونها التزمت – كما الجميع- الصوم في ذلك اليوم المبارك..( علمت فيما بعد.. لماذا تحب حبيبتي هذه الحيوانات أكثر من غيرها...فقد شهدت ميلادها ...بل وشاركت في الاحتفاء به  بحبور لحظه الجميع....رغم أنف جغرافيا الفانين وغفلتهم ) وكما أتى ( الجن) بعرش بلقيس ..قبل أن يأتوه مسلمين أتى ( الحب) بكل كائنات الكون كي تشهد عرس الميلاد  طائعين ..وان  علت حواجبهم دهشة وذهول بديعين : كيف أنستهم أشواقهم عناء الرحلة الطويلة الى ( الأبيض ) حيث خيام الفرح قد نصبت من مرمر أحزان الفقراء.. وأشواق اليتامى ، وحشدت فسيفساء رمال المدينة  بمزيج بهيج من حسرات هزائم العشاق وآمالهم ، وجدلت ضفائر مياه الينابيع من دموع  الملتاعين ،  عجبت الكائنات كذلك ..من هذا المكان الغريب ..الذي استضاف مرة واحدة والى الأبد.. الحملان وهي  تتقافز على وقع ضحكات الذئاب المرحة .. ورأوا كيف تربت الأسود بحنان  غامر على أعناق الغزلان ..أما النمور فقد كان أمرها عجبا: اختارت أن تلعب بهناءة  لعبة التخفي والظهور مع الشياه والأغنام.. وكانت الأخيرة تسلك سبلها ذللا.. سادرة في غي لعبها الجميل مطمئنة القلب للحنان المباغت الذي أبدته النمور ..
قال ابني الصغير (محمود) من مكمنه البديع في شفق أحلام حبيبتي وهي للتو طفلة:
  أبي ..لأمي ميزة ..وسكت ..حاولت أن أعرف ماهي ميزتها ..لكنه بإغاظة طفولية لم يخبرني  ..كانت طفلتي الجميلة تشع من عينيها ضياءا بديعا يريني أطفالي الحلوين( ريم، إيمان والشقي اللاعب محمود) .. وهم يتكورون وعدا وبشرى في أحشائها الصغيرة..ضحكت حين رأيتهم ..وعرفت ان لا شقاء بعدها..عرفت بأنني مبارك وبأني أستطيع أن أبارك الآخرين.. لم تكن( ريم) الضاحكة دوما تبالي كثيرا بما اختلسته –سرا- من هوس أمها الخرافي بالمرح ..كانت فقط تضحك ..الى حد ان القابلة التي أشرفت على ولادة زوجتي كانت محتارة من هذه الفقاقيع الملونة من الضحك الصادرة من جوف  الطفلة النائمة ...ضحكات من  شفق الغيب ..فأمها للتو قد ولدت ..(إيمان)هي  الأخرى كانت ممسكة بيدها الصغيرة بألوانها وفرشاتها ...ترسم في وجنتي أمها شوارعا للفرح ومدائنا تسكر وتفيق على هلوسات عشقي المجنون ..كانت القابلة  تسكن  قشعريرة خوفها الكلي السيطرة  من هذا الحشد الكثيف لمخايل جمال الطفولة وطفولة الجمال التي تتمشى خالية الروح من إسار الطين  في جسد الطفلة المدهشة ..هالتها كل تلك الصور الأثيرية لأطياف أطفالي الرائعين وهم يشهدون ولادة أمهم ..لم تدر ماذا تصنع ..أتكلم من كان في المهد طفلا؟ أم لعل عقلها خالطه جنون ما ..وما هذي الصور والأصوات التي تسمعها جيدا وتراها إلا محض  هواجس وتخيلات وأوهام ؟ ذهبت القابلة الى أمي تحادثها ..وقبل أن تشرع في فك طلاسم ما يبدو عليها من حيرة عميقة..فاجأتها أمي ضاحكة:
هل رأيت كم هم رائعون  أطفال هذه  المولودة الخرافية السحر  ..أحفادي مدهشين أليس كذلك ؟
عرفت القابلة حينها ان في الأمر سرا يتجاوز أفق إدراكها المحدود ، وان لهذه الطفلة شأنا فيما سيلي من الوقت  ...وأقسمت ثلاثا ان لو شهدت ولادتهم لتخدمنهم مدى ما بقي في عروقها من دماء وفي قلبها من نبض واجف.
كانت المولودة حينها تحرك يديها الصغيرتين، عبر الثقوب  اللا مرئية في كريستال الزمان الشفاف كأحزان عذراء في ليلة زفافها لشخص بغيض ،كي تلاعب أطفالها الآتون  على صهوات غمام عشقي  المجنون ،مرة ، وكي تزجرهم مرات ،   عن هذا الاندفاع المحموم للعبث الطفولي ..( محمود ) كان يتصنع – بعبثية وشقاوة – الهدوء طوال الوقت،  بينما ينشغل سرا  بمحاولة إضحاك أمه عبر غمزها بأصابعه الصغيرة على جنبيها ..لم تكف أمه عن الضحك ..الذي أدهش كل من كان بالغرفة  لكونه يخالف مألوفهم  ( فالأطفال ..عادة ..ما يأتون للحياة وهم يصرخون ..ويخرجون منها وهم يصرخ عليهم ) ولكن أن يضحك من ولدوا للتو ..فهذا لم يحدث إلا معها هي ..ألم أقل لكم كم هي مدهشة؟!
جدة  20/9/2011
    

                


الأربعاء، 23 مارس 2011

سوناتا الحروف- كتابة

سوناتا الحروف- كتابة

(1)
جدل الفراغ والملاء
يحي الحسن الطاهر

جلست الحروف - ذاتصفاء-  تتسامر حول مواقعها في الكتابة ، كانت البهجة تغمر الجميع، من هذا التآلف البديع الحميم، الذي يلفها جميعا بعباءته الدفيئة ، كانت الصغار منها ،مثل الدال والباء تتضاحك جزلى، وتكركر ضحكاتها فقاقيع ملونة ، تتحول غماما متراقصا، يحجب عن الحروف شمس العدم، وفراغ الملاء السحيق ، كان الجميع في بهجة ومسرة عميمة ، لا يكدر صفوها الا من ازيز بدا خفيضا وصار يتعالى شيئا فشيئا ، احتار الجميع من مصدر ذلك الصوت الغريب ، الذي يشبه انينا مكتوما يضمر غيظا دفينا ، علم الجميع بعد مدة  طويلة، تساقطت فيها برهات  الزمان، قطرة اثر قطرة، في الوادي السحيق للأبدية ، علموا ان مصدر هذا الصوت، هو من بعض ذوات الاسنان والاضراس من الحروف: الظاء والطاء والضاد ، التي انبرت خطيبا:
فليعلم الجميع هنا ان العدالة هي ما ننشد ، ولا تغرنكم هذه الهناءة العابرة ، انظروا الي ما حسبتموه تجانسا ، اين هذا التجانس؟ الا تتبادلون المواقع بكيفية خارجة عن ارادتكم ؟ الا يمتن بنو الفانين عليكم بالوجود نفسه ، الا يزيحون بفوضى وجودكم شعورهم بالعدم ، ثم أين هذه الكيميائية العذبة لانسجامكم المزعوم ؟ الا تتناحرون حينا، حتى يخفي بعضكم بعضا فيما تزعمونه بلاغة وتجويدا ؟ ثم انظروا الي أنا : على الرغم من انكم تتسمون باسمى، لغة الضاد ، فما ذاك بميزة لي : فأنا أقلكم ورودا ، وغالبا ما تستقبحون صوتي، فلا تدعوني افتتح الكتابة ، تحاولون زجي بينكم ، في وسطكم ، كي تضبطون ايقاعكم المشروخ، برنينى العميق، فيالها من غفلة وحيف!   علا  حينها صياح الحروف واشتد ضجيجها ، كانت بعضها تشتكي من البرد، لكونها تأتي في مفاتح الجمل ، وأخرى تتذمر من الضيق والاختناق والانحباس، لتوسطها بين أحرف حارة، تتلظى بمشاعر الغيظ والمرارة ، اما التي غالبا ما تأتي في أواخر الكلام، فخوفها من حافة العدم التي تطل عليها أصاب الجميع برعدة بالغة ( لعلمهم بأن ذلك مصير محتمل للجميع) علا الصياح وضج السامر بالشجار ، وتشابكت الحروف بالأيدي والأرجل  فهنا ترى حرف( الألف) ينتصب عصى غليظة تنهال ضربا ،على ظهر  الحروف  المنبسطة مثل (الغين، والعين والجيم والحاء والخاء) حتى  تدميها وتتقاطر دمائها مشكلة نقاطا للثاء والتاء والنون ، فما تلبث هذه الأخرى، أن تنالها عضات الأحرف المسننة مثل الشين والسين ، فتتلوى الما حتى تصير مرة (كافا ومرة دالا وزالا - ) حتى اذا بلغ بها الألم منتهاه وأشتد بها الوجع ،

فرت هاربة واختفت، في تضاعيف مجوفة مثل، التشديد أو التسكين أو حتى الاضمار والاقلاب ، ومن طريف ما يروى من  أمرها ، أنه يحكى ان بعضها ينقلب محض أحرف ناعمة لينة، لا تستفز نعومتها شرا ، بل يسعى بعض الاحرف اليها رغبة في شميم فائح انوثتها الانيقة، وتتأبى هي في دلال وغنج ، ولعل هذه النعومة وذاك الدلال، هو ما زين لها ان تنبري لفض هذا الاشتجار ، اقترحت الياء خطيبا :
قالت الياء ، بعد ان تنهنهت طويلا حتى كادت تنقلب باءا ، ولكنها انحنت بسرعة تلملم نقطتها، التي تطايرت من تنورتها الضيقة ، ثم قالت في نعومة مخاطبة الضاد:
انظروا الي : انا آخر كم ورودا في الابجدية ، وليس في ذلك عيب ، اذا  وجد الطموح والحيوية ، فهاأنتم تروني آتى في اشد لحظات وجودكم وثوقا ، اليس بي تصاغ كل راهن حركة الكائنات ؟ يجري ، يبكي، اليس في بركة موضعي، انبثاق الفعل من جوف السكون؟ ما افعالكم غيري سوى ماض غائب؟ جرى، بكى ، نام ،  فيا أيتها الضاد لا يحزنك موضعك ، فما يقعد بك هو قصور همتك لا بعد موضعك ، ثم هيا أخبريني:
أين هذا الرنين العميق الذي به تفاخرين ؟ أين هو من عذوبة رنين السين وهمس الشين ، ورقة الحاء ودفئها ، التي أوحت الى بنو الفانين بأن يفتتحوا بها كل مفردة دفيئة، مثل، حلم وحب وحرية وحنان وحسن ؟ أين انت من ذاك بل دعينا من هذه المراقي  التي لا تطيقين واخبرينا : أين أنت من جلال وجمال الميم ؟ وسكونها العميق ، اليست هي اشارة وعبارة علي الطمأنينة اذ بها كل ما يأوي اليه بنو الفانين، فهي مهد ، منزل ، مسكن ، موطن ، حسنا ..لنترك كل ذلك ..فهيا أخبرينا ..أين أنت من طلاوة وحلاوة العين؟ عسلها ، عنبرها ، عبقها ، عشقها ؟
جلست الياء في زهو وخيلاء وقد رأت ما يتخايل من اعجاب من مقالتها، في الاخاديد العميقة، للسين والشين ، ولشد ما أعجبها تقوس النون فرحا، حتى  كادت أن تنكفئ على وجهها باءا ممسوخة ، أو يذهب بها التمايل فرحا، الى حد أن تصير الفا ممدودة ، ولأمر ما تشابهت الألف الممدودة نطقا وشكلا بالدودة ، فزعت الياء من هذه الخواطر واستعاذت بالألف والام مرتين وبالهاء، من الخيلاء والغرور، وما سيجره عليها من ويل وثبور ، الم يرسم لها كل هذه المسوخ المحتملة؟
فجأة شق ضجيج الحروف وتشاكسها صياح عظيم:
جفلت الحروف ووجفت ، ثم سكنت تتصنت ما كنه هذا الصوت المريب ، تبينت انه آت من جب عميق ، انه داعي النوم ، تواثقت على أن لا يؤذين بعضكم بعضا حتى الغد ، دعونا ننام ولنا ملتقى غدا لا نخلفه.   
      
      

سوناتا الحروف- كتابة – جريدة المدينة- ملحق الأربعاء الثقافي

يحي الحسن الطاهر

(2)
قلق التكوين
حسنا :
كانت الاحلام التي داعبت مخيلتهم تلك الليلة، غريبة حقا ، حلمت الباء بأنها تتنزه وحيدة، قرب شاطئ منسي بعيد ، لم تكن هنالك أية اشارة لحياة عاقلة ، قالت تخاطب ذاتها:
حسنا لم لا أدعو بعض أخواتي فنتحد( وربما ..وربما) ثم تضج الحياة بهذا الشاطئ ، كانت فرحة بهذا الخاطرة المباغتة فأنستها فرحتها، وما بداخلها من نداءات الخصوبة ، انها تفترش لحافا وتضجع قريبة من النون، التي كانت ترقب حركتها،لكونها لم تنم في تلك الليلة، كانت النون ترى في وجه الباء تعابير متعددة ، فتارة تراها مرة ترتعد خوفا ..وفجاءة تضحك بسعادة ، ثم تارة أخرى ، ترى تلك النظرة التي تعرفها كل الحروف، الرغبة وشهوة الخصوبة ونداء اللذة،،والمعروف لدى الحروف جميعها، ان النون هي أكثرهم حنوا وعطفا على الجميع، أكثرهم حيوية وحماسا في تلبية نداءاتهم جميعها، كانت النون تحاول ان تفكك شفرة هذا الحلم، الذي يدور في الأزقة القصية لروح الباء وعقلها، كانت ترغب في مفاجأتها بتحقيقه،صارت تقترب أكثر وأكثر، حتى تستطيع سماع هلوستها الخفيضة ، الألف كان يرقب من مكمنه البعيد كل هذا ، وعرف بحدس الحروف القوي، ما كان يدور بين الباء والنون من جدل صامت ، فصار ينادي على التاء ان تقترب..وحين صارت قريبة جدا، نهض الألف بخفة من مكانه ، وتمطى حتى يذهب غائلة نومه العميق ، وحتى يستطيع حمل النون، بقوسها ونقطتها عاليا، كي ترى من علو ما يدور بخلج الباء،فهمت التاء بأن الألف يريدها، أن تقترب حتى لا يسقط ، وهو يشب على أطراف قدميه، كي يتمكن من رفع النون الى أعلى أفق ممكن، لعلمه المسبق بأن الحروف جميعا، حين تحلم ،تغوص في أحلامها عميقا حتى تأمن من التلصص، فهمت التاء كل ذلك ، وتولى الألف اعداد كل شيء ، أمر النون بأن تلتصق بالباء بخلس حتى لا تزعج نومها، ورفع النون عاليا، وهي ملتصقة بالباء..فهمت التاء مكر الألف، فأتت تسعى وهي تحتك بالألف، في وضعه المضحك ذاك: يرفع النون الملتصقة بالباء النائمة ، أحدثت كل تلك الضجة أصواتا مزعجة جدا ، جعلت الباء تستيقظ فزعة ، وحين حاولت الصراخ ، نبهتها النون من عليائها تلك :انظري ألينا، الم نشكل جميعا ما ينقص هذا الشاطئ المهجور، دعونا فقط نتناسل أكثر فأكثر، دعونا نرتدي بعض الألوان المختلفة ، ولكن دعوتا نقصقص قليلا من أطراف أثواب النوم الطويلة هذه ، دعونا نرتدي أثوابا اكثر قصرا، حتى نسمح للنسيم العليل للشاطئ بان يرعش اجسادنا، وسترون كيف يضج الشاطئ بالمرح ، وكيف تنشر الريح خرافة ما تثرثره الماء من اشجان عشقها الى اليابسة،ضحكت الباء في سعادة ، سعادة لم تكن تحلم بها ، فما فعله الاندغام الجميل للألف والنون والتاء كان أكثر مما تتوقع ..صارت تضحك بشكل هستيري مجنون ، حتى بدأ الجميع يرتجون في مواضعهم ، لم يستطع الألف بكل قوته وصلابته المعهودة ،أن يوقف النون التي كانت تتقافز خائفة ، تحاول أن تتملص من هذه الكينونة ، أخيرا أستقر ضحك الباء وسكن، ولكن بعد أن ذهبت النون بعيدا في الحافة من هذا النسيج ، صارت قبل الباء ذاتها حتى تأمن في مستقرها ذاك من احتمال انهيار الكيان جميعه ، ضحك الألف حين نظر عبر الفرجة الضيقة لتنورة النون الى ما صاروا عليه بعد تبدل المواقع ، وقال انظروا ما لدينا من تنوع ، ثم في برهتعشق صاح بالباء:
بوركت ، فقد منحتينا الظل وهذا الألق.
بدأت الأحرف الأخرى تستيقظ تباعا، بعضها بتثاقل ، مثل الظاء والطاء والضاد ، لعلمها بأن لا حاجة  للجميع اليها، في هذا الصباح الباكر ، وان شاركتهم جميعا الاندهاش العظيم ، اذ رأوا كيف استحال المكان ، فبالأمس بعد كل ذلك الشجار ، نام الجميع في خلاء قصي وهاهم الآن يستيقظون قرب شاطئ ضاج بالحياة، تمرح فيه حسان بهيجات ويزدان بالاشجار الجميلة، وكل صنوف النبات ، أحس الجميع بالجوع وتنادوا :
هيا ، تعالوا نشكل بتراصنا ما ترغبون فيه من طعام وفاكهة وشراب،ثم فجأة صاحت الكاف:
مالي لا أرى الشين والألف والياء ،ألم تلحظوا ان الألف أيقظ الجميع ، أين ذهب؟ بدأ القلق ينتاب الجميع ، صاروا يتلفتون يمنة ويسرة ، بل بلغ بهم القلق لئن ينتدبوا بعض الحروف المائية ( فهم قبائل شتى ، كما هو معروف) بأن تذهب الى النهر وتغوص بحثا عل الشين والألف والنون تكون قد استهوتها غواية الماء ومن يسبحن فيه،كانت الألف وصويحباتها يضحكون بهناءة غامرة في خبائهم البعيد وهم يصنعون للجميع مشروب الصباح الذي يشتهون . جاءوا يسعون بالوان متعددة بين الأخضر والأسود والأحمر وقد أدغموا في نسيجهم الحميم سينا خجلي، كافا عجلى، وراءا مرتعدا، من كون ان هذا المزيج سوف ترشفه الحروف وتمحق وجوده في برهات قلائل وربما تطالب بالمزيد .
ارتج سكون الشاطئ وضج بكل هذه الأصوات ، فهاهي الريح في البعيد، تزمر تراتيل الموج وتهامس الاشجار في عشقها الذي لاينتهي أبدا للبوح والغناء، ثم هاهو الموج  ، طفل الماء الشقي الذي لا يعرف سوى اللعب والتقافز ، يرتل الآن  صلواته السرية لجنياته ، وبعد كل هذا يأتي صوت ارتشاف الحروف لعصير وجودها.
فجأة أطبق ظلام كثيف ، صارت الشين والألف والياء لا ترى شيئا، علمت انها الآن في القاع العميق تنام محض ذكرى لذة الصباح المعتاد للحروف ، ولكنها في غور وجودها ذاك كانت تدرك انها سرعان ما تتجشأها الحروف ، فتخرج منسلة كغمام ناعس جميل عبر شقوق استلذاذ الجميع .

يحى الحسن الطاهر


         
      
               






















سوناتا الحروف

(3)

ذاتمرح ما



تبارت الحروف جميعا في أي تشكيل يكون أكثر شهية للافطار الذي بدأت تحس دنو وقته من تلك الاختلاجات العميقة في امعائها الخاوية ، بعد لغط وفوضي عظيمين وقفت اللام وقالت:
اعرف جليا انكم الآن كما أنتم دوما، تنظرون مني أن أدعو الحاء والميم الي الالتصاق بي ، وان نعيد ترتيب اندغامنا ونسكب عصير فوضانا علينا، لأنه بغير ذلك لن يكون لنا أي طعم ، حسنا ، لابأس سنفعل كل ذلك ، ونتبادل المواقع ، وساكون عادلة:
مرة سأكون في الابتداء وتأتي الحاء في الوسط والميم في الختام ، ثم ستاتي الميم في البدء وأتوسطهم ثم نختتم بالحاء، وبعد أن تمتلئ امعائكم ، ستأتى الحاء في البدء ولابأس لي في أن أتوسط مرة أخرى ، وليته يكون تشكيلا سعيدا.
دهش الجميع من فصاحة اللام وبلاغة خطابها، سال لعابهم جميعا وصاروا يهيبون بها أن تشرع وصويحباتها